اختلفت الملائكة! اختلفت ملائكة العذاب وملائكة الرحمة على الرجل الذي قتل مئة نفس.
اختلف الأنبياء! اختلف سليمان وداود عليهما السلام في الحكم على امرأتين تدّعي كل منهما أمومة الطفل.
اختلف الصحابة! عُرف عن ابن عمر الأخذ بالعزائم وعن ابن عبّاس الأخذ بالرخص، أيضاً ما حدث بين أبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في كيفية التعامل مع المرتدين.
والحديث عن أدلة حدوث الاختلاف في سيرة الصالحين، كثيرة ولا يتسّع المجال لذكرها هنا!
نستنتج إذاً أن الاختلاف ليس عيباً، فهو أمرٌ مشروع، فُطِر الناس عليه، ومن هنا -أيها القارئ- دعنا نتفّق بأن لا نجعل هدفنا إلا نختلف، فالاختلاف واقع لا محالة، شئنا ام أبينا. لكن هنا يأتي مربط الفرس، ألا وهو كيف نتعامل مع الاختلاف؟ وهو ما دفعني لطرح هذه التدوينة. وقبل هذا كله، من المهم (جداً) أن نفرّق بين “الاختلاف” و “الخلاف” ، هناك فرق شاسع بين الاثنين. كما يقول محمد الرطيان : ” الخلاف : فقر ، الاختلاف : ثراء “.
نعم، الاختلاف ثراء ونفع وفائدة عظيمة لو استثمرناه بالطريقة الصحيحة. أعطيك مثالاً عملياً، لو طُلب من مجموعة اقتراح فكرة تطويرية لبرنامج، ألن يكون من الأفضل أن تختلف الآراء؟ فبذلك نجني أكبر عدد ممكن من الأفكار 🙂 ثم إن الاختلاف أمر طبيعي جداً، بل إن من غير الطبيعي ألا نختلف. ونحن بطبيعة الحال نحتكّ ببعضنا البعض في مسيرة الحياة.
إذ أنّ الحياة أساساً مبنيّة على الاختلاف والتنوّع. قائمة على الاختلاف : صيف / شتاء ، ليل / نهار ، أبيض / أسود . وقائمة على التنوّع : الأسماك، الطيور، النباتات، الألوان، الأشكال … إلخ.
قال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}
الناس يختلفون عن بعضهم البعض، فمن المستحيل أن تجد اثنين يشبهان بعضهما البعض تماماً، حتى التوائم في شكلهم الظاهري، لا بد وأن تجد اختلاف بينهم! الله عزّ وجل خلق كل إنسان مختلف عن الآخر، خلق كل إنسان مُميّز عن غيره، في أشياء كثيرة .. مثل الاختلاف في الشكل، اللون، اللغة، البصمة، الملامح، الأذواق، الميول، الرغبات، الهوايات، العِرق، الجنسية، الدين … إلخ.
قال تعالى : {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}.
إذاً كما أسلفنا، السؤال الحقيقي هو : كيف نتعامل مع الاختلاف؟ أنا لن آتي بكلامٍ من عندي، بل كله مستمد من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
* 1) أنظر للاختلاف على أنه ميزة، تزيد الحياة جمالاً. فأدراكك للواقع، هو مشكلتك وحدك! فليس من الإمكان تغيير (الواقع) في هذه الحالة، ولكن يمكن تغيير (إدراكك) للواقع 😉
تخيّل معي أن كل الناس مثلك تماماً! تخرج من منزلك فإذا بهم جميعاً يرتدون نفس ثيابك، تسوق سيارتك، فإذا بهم جميعاً يملكون نفس السيارة، تجري مكالمة هاتفية، فإذ بهم يستخدمون الهاتف الجوال ذاته!
تخيّل كيف سيكون حالك بعد أسبوع فقط؟ ستصاب بالجنون!! قال تعالى : {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ … }.
وقال سبحانه : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا … } أي لكي تتعارفوا وتتبادلوا المنافع من بضائع – تجارة – ثقافة – علاقات – أفكار – فنون – أطعمة … إلخ.
في قصّة بني قريظة مثال للاختلاف، حيث قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : “لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة”. وكان من المعروف أن منازل بني قريظة في أطراف المدينة واقترب وقت صلاة المغرب، فانقسموا لقسمين: قسم رأى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاهم نصاً صريحاً محكماً ألا يصلّوا العصر إلا في بني قريظة، فقالوا لا نصلِّي إلا في بني قريظة، حتى لو خرج الوقت.
والقسم الآخر قال : إن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد الإسراع بالخروج إلى بني القريظة، وليس ألّا نصلّي العصر إلا فيهم؛ فصلوا في الطريق قبل أن يصلوا إليهم.
إذاً وقع الاختلاف في فهم مراد النبي عليه الصلاة والسلام، لكن ماذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم؟ لم يحسم الموقف، ولم يعنّف أحداً من الفريقين وأقرّ الفريقين ولم ينكر على أحد وابتسم لهم ولم يعلّق، بل ولم يبيّن أي الفريقين كانت أولى بالصواب في القصة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم مدرك أن الاختلاف سنة كونية، لا بد منها. لكن العجيب في الموضوع -ويؤسفني والله قول ذلك- هو أن العلماء اختلفوا بينهم اختلافاً شديداً مَن مِن الاثنين الصح !!
* 2) زن الناس بحسناتهم وسيائته، فتركيزك على الجانب السلبي لهم يجعلهم يشعرون كما لو أنك تتصيّد وتتحيّن أخطاءهم، لكن كن عادلاً، منصفاً، واذكر النقاط الإيجابية كما تذكر النقاط السلبية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي العاص بن الربيع -وهو زوج ابنته زينب- الذي أصرّ على كفره وحارب النبي يوم بدر وبالرغم من ذلك قال عليه الصلاة والسلام : “لكننا ما ذممناه صهراً”.
* 3) ابحث عن المنطقة المشتركة مع الآخر، فغالباً ما يشترك الطرفين في بعض الأمور. والفطين هو من أدرك هذه الأمور المشتركة واستثمرها بطريقة سليمة.
كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم وسط الجوائز المغرية من قريش كافر! نعم كافر وهو عبدالله بن أُريقط، وقاد المهمة بنجاح، وثق فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان أهلاً للثقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى الاختلاف في الدين، ولكن نظر إلى الكفاءة ومن هو أهلٌ للثقة. أيضاً نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي، مع إنه بالتأكيد كان يوجد مسلمون أغنياء، لكن لماذا قبل النبي ذلك؟ أيٌّ رسالةٍ يوجّهها لنا؟
* 4) لا تغلي الطرف الآخر، فكثيراً ما نجد أناساً يعيشون بسياسة : أنت لست معي، إذاً أنت ضدي. فلا داعي أن يحتدم الغضب بغير بسبب، ويشتعل فتيل الكراهية والحقد والحسد والبغضاء لمجرد الاختلاف!
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : “لقد شهدتٌّ في دار عبدالله بن جدعان (أحد كفار قريش) حلفاً لو دعيتُ به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن ترد الأمانات والمظالم على أهلها، وتحالفوا على نصرة الظلوم”. انظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم بالرغم أنهم كانوا محاربين لهم، فلم يلغِ الطرف الآخر، بل أقرّ بحسن صنيعهم.
* 5) إن كنت مصّراً وتمسكاً برأيك بشدة، على الأقل إياك وجرح الآخرين، إياك والشتائم، إياك والتقليل من قدر الآخرين، إياك والأهانة، إياك والإساءة، اختلف بكل أدب واحترام.
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء، لم يقل : ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول : ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟
الشافعي عندما اختلف مع رجل في مسألة غضب الرجل فقال له الشافعي : “ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن اختلفنا في مسألة”.
وعن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً …”
وهناك مؤشرات وعلامات تدل على أن الأمر تحول إلى جدال، ومن الأفضل انهاؤه:
1- عندما ترتفع الأصواب.
2- عندما يبدأ الكلام في التكرار وتبدأ الحجج نفسا تقال مرة تلو الأخرى. (فكأننا هنا ندور في حلقة مفرغة)
3- عندما تحدث مقطاعة للحديث بين الطرفين. فبهذا يكون الشخص يريد أن يقول ما عنده، وليس لديه استعداد للاستماع إلى الآخر، فمالفائدة إذاً!
4- عندما يبدأ كل طرف في محاولة لإثبات وجهة نظره هو فقط، وليس فهم وجهة نظر الآخر.
كالعادة، أحبّ أن اختم كلامي بكلمة جميلة، هذه المرة سأختمها بقاعدة للإمام مالك : “إذا وجدت من يسب ويشتم الآخرين بحجة أنه يدافع عن الحق فاعرف أنه كاذب وإنما هو يدافع عن هواه واعلم أنه معلول النية، فالحق سبحانه وتعالى هو الذي يقول {… وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } .